Rss Feed

  1. قوله (357) : ( لأنّه أحرق فُجاءة المازني بالنار وكان يقول : أنا مسلم ) .
    فأجاب بقوله : إحراق فُجاءة إنّما كان باجتهاده ، وعدم قبول توبته لأنّه زنديق ، ولا تقبل توبة الزنديق في الأصح ) .
    أقول :
    ظاهر قوله : ( لأنّه ... ) أنّ ما يذكره أصحابنا من المطاعن في هذا الباب ينحصر بهذه الموارد الثلاثة التي ذكرها ، والحال أنّه ليس كذلك ... ففي التجريد مثلاً : ( ولم يكن عارفاً بالأحكام ، حتى قطع يسار سارق ، وأحرق بالنار فجاءة السلمي ، ولم يعرف الكلالة ، ولا ميراث الجدّة ، واضطرب في أحكامه ، ولم يحدّ خالداً ولا اقتصّ منه ) (1) .
    ____________
    (1) التجريد وشرحه : 296 .

    الصفحة 78
    أمّا إحراق فُجاءة .. فقد اضطربت الكلمات في توجيهه ، فمنهم من أجاب كما في الكتاب ، وتبعه صاحب ( الصواعق ) بقوله : ( وإذا ثبت أنّه مجتهد فلا عتب عليه في التحريق ؛ لأنّ ذلك الرجل كان زنديقاً ، وفي قبول توبته خلاف ، وأمّا النهي عن التحريق فيحتمل أنّه لم يبلغه ، وتأوّله على غير نحو الزنديق ) (1) .
    لكن لا تعرّض في الكتاب لنهي النبيّ صلّى الله عليه وآله عن الإحراق ، كما في صحيح البخاري (2) أمّا في ( الصواعق ) فقد نبّه على أن اجتهاد أبي بكر مخالف للنصّ فأجاب باحتمال أنّه ( لم يبلغه ) لكن هذا قدح في أبي بكر فاستدركه بأنّه يحتمل أنّه بلغه لكن ( تأوّله ) .
    ثمّ إنّ هذا كلّه مبني على أن يكون الرجل زنديقاً ، لكنه لم يكن زنديقاً ، وكان يقول : ( أنا مسلم ) كما ذكر في الكتاب ، بل قيل إنّه كان يلهج بالشهادتين حتى احترق وصار فحمةً ، وغاية ما هناك أنّه قطع الطرق ونهب أموال المسلمين كما ذكر المؤرّخون كالطبري ، ومثله لا يكون زنديقاً ...
    ولذا عدل بعض المعتزلة المدافعين عن أبي بكر كابن أبي الحديد إلى التوجيه بأسلوب آخر ، فقال : ( والجواب : أنّ الفجاءة جاء إلى أبي بكر ـ كما ذكر أصحاب التواريخ ـ فطلب منه سلاحاً يتقوّى به على الجهاد في أهل الردّة ، فأعطاه ، فلما خرج قطع الطرق ونهب أموال المسلمين وأهل الردّة جميعاً ، وقتل كلّ من وجد ـ كما فعلت الخوارج حيث خرجت ـ فلمّا ظفر به أبو بكر حرٌقه بالنار إرهاباً لأمثاله من أهل الفساد ونحوه ، وللإمام أن يخصّ النصّ العام بالقياس الجلي عندنا ) .
    فتراه لم يدعِ زندقة الرجل ، بل ذكر له توجيهاً ثبت في محلّة بطلانه جدّاً ...
    وحيث رأى بعض المتكلّمين الأشاعرة سقوط هذا التوجيه كغيره ، اضطرّ إلى أن يقول :
    ـــــــــــــــ
    (1) الصواعق المُحرقة : 32 .
    (2) صحيح البخاري 6 / 113 بشرح ابن حجر .

    الصفحة 79
    ( إحراقه فُجاءة السلمي بالنار من غلطه في اجتهاده ، فكم مثله للمجتهدين ) (1) .
    لكن الاعتراف بغلط أبي بكر في الاجتهاد لا يبرئ ساحته ، ولا يكون له عذراً يوم القيامة ، مع وجود النصّ الصّريح الصّحيح في حرمة التحريق بالنار ، فهو قادح في عدالة أبي بكر وخلافته ، ولذا اضطّر بعضهم كالشيخ عبد العزيز الدهلوي في كتابه ( التحفة الاثنا عشرية ) (2)إلى إنكار أصل القضيّة ، ودعوى أنّها من افتراءات الشيعة . فإنكار أصل القضيّة يشهد بأنّ لا توجيه صحيح له ، لكن الإنكار لا يجدي ؛ فالقضية من المسلّمات ، والمصادر الناقلة لها كثيرة معتبرة ، وإلاّ لم احتاج الآخرون إلى تلك التوجيهات الفاسدة الباردة ...
    وفوق ذلك كلّه ، كلام أبي بكر في آخر حياته ، الدالّ على ثبوت القضيّة وسقوط كلّ التوجيهات : ( وددت أنّي لم أكن حرّقت الفجاءة السلمي ... ) .