Rss Feed

  1. وأمّا قضية الصّلاة بالناس وأنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم : ( أمره بالصلاة بالناس في مرضه الذي توفّي فيه ) ، وأنّ ( قولهم عزله عن الصلاة كذب ، وما نقلوه فيه مختلقٌ ... ) ، فكأنّها أقوى أدلّة الكتاب على المدّعى ، ولذا أطنب الشارح في هذا المقام . لكن الحقّ الواقع الذي يتوصّل إليه المحقّق المنقّب :
    أوّلاً : أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يأمره بالصلاة .
    وثانياً : إنّه لمّا علم بخروجه إلى الصلاة في موضعه خرج معتمداً على أمير المؤمنين ورجلٍ آخر ، وصلّى تلك الصلاة بنفسه .
    وثالثاً : أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يقتد بأحدٍ أبداً .
    ورابعاً : أنّه على فرض كلّ ذلك فقد أمر صلّى الله عليه وآله وسلّم غير أبي بكر بالصّلاة بالناس في مواضع عديدة ، ولم يكن ذلك دليلاً على شيء .
    وبيان ذلك بإيجاز ، هو : أنّهم وإن رووا عن عائشة وعدّة من الصحابة أنّ رسول الله عليه وآله وسلّم أمر بأن يصلّي أبو بكر بالنّاس في مرضه . لكنّ أسانيد تلك الأخبار كلّها ساقطة بضعف رجالها . على أنّها جمعاً تنتهي إلى عائشة ، وهي في مثل هذا الأمر ـ لكونها بنت أبي بكر ومناوئةً لعليّ عليه السلام ـ متهمة ، فلا يعتمد على خبرها هذا .
    هذا من حيث السند .
    وأمّا من حيث الدلالة : فإنّها وإن اشتملت على أمره صلّى الله عليه وآله وسلّم أبا بكر بالصلاة في موضعه لكنها جميعاً مشتملة على خروجه إلى المحراب وصلاته بالناس بنفسه الشريفة (1) .
    ـــــــــــــ
    (1) لاحظ : البخاري بشرح ابن حجر 2 / 132 ، 137 ، 162 ، مسلم بشرح النووي ـ هامش إرشاد الساري 3 / 54 ، 61 .

    الصفحة 74
    فهذا ما جاء في نفس تلك الأخبار المخرجة في الصحاح وغيرها المستدلّ بها على أمره أبا بكر بالصّلاة بالناس ، وليست أخباراً أخرى ، وخروجه للصّلاة بنفسه ـ بعد أمره أبا بكر بالصلاة ـ عزل له عن ذلك .
    فمن قال بأنّه : ( عزله عن الصلاة ) فإنّما أراد هذا المعنى ، ولم يرد ورود حديث في مصادر أهل السنّة مشتمل على لفظ العزل حتى يقال بأنّ هذا القول كذب ( وما نقلوه فيه مختلق ) !
    هذا ولم يتعرّض الماتن إلى دعوى صلاة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم خلف أبي بكر ، ولعلّه لعدم ورود شيء يفيد ذلك في شيء من الصحاح والسنن ، ومن المعلوم أنّ مجرّد صلاة أحد في مكان النبيّ لا يدلّ على استحقاقه للخلافة من بعده ، وإلاّ لزم استحقاق كلّ من أمره صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك من الصحابة ، حتى ابن أم مكتوم الأعمى ، فاستدلاله باطل على فرض ثبوت أصل الخبر .
    أمّا الشّارح فكأنّه التفت ـ كغيره ـ إلى سقوط هذا الاستدلال فأضاف دعوى : أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج إلى المسجد وصلّى خلف أبي بكر ، وزعم أنّ ما روى البخاري ممّا دلّ على عزله عن المحراب ( فهو إنّما كان في وقت آخر ) .
    لكنّ مستند هذه الدعوى بعض الأخبار الضعيفة التي أعرض عنها البخاري ومسلم وكبار أئمّة الحديث ، وممّن نصّ على عدم الاعتداد بهذه الأخبار وسقوطها عن الاعتبار الحافظ ابن الجوزي والحافظ ابن عبد البر والحافظ النووي (1) وأمّا الجمع بين هذه الأخبار وما دلّ في الصحاح على عزله بتعدد الواقعة فهو :
    أوّلاً : فرعٌ على صحّة هذه الأخبار المزعومة .
    ـــــــــــــــ
    (1) لاحظ : فتح الباري 2 / 120 ، عمدة القاري 5 / 191 ، المنهاج في شرح مسلم 3 / 52 .

    الصفحة 75
    وثانياً : على تكرار صلاة أبي بكر بالناس حتى يكون في مرّةٍ إماماً للنبيّ وفي أخرى مأموماً له ، لكن الذي عليه الأئمّة أنّ صلاته بالناس لم تكن إلاّ مرةً واحدة ، وهي التي حضر فيها النبيّ فكان الإمام (1) .
    ثمّ إنّه يؤكّد كذب أصل خبر أمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم : كون أبي بكر في ذلك الوقت في جيش أسامة في خارج المدينة (2) الذي لعن من تخلّف عنه (3) ، فإنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يعود ـ والحال هذه ـ فيأمره بالصلاة بالناس .
    وأيضاً فالنبّي كان ملتزماً بالحضور للصلاة بنفسه ، فقد صلّى بالناس في مرضه الأخير إلاّ في الصلاة الأخيرة من عمره الشريف حيث اشتد حاله فلم يحضر (4) ، وهذه هي التي خرج إليها معتمداً على رَجُلَين ، أحدهما عليّ عليه السلام (5) ، فصلّى تلك الصلاة أيضاً بنفسه ، لأنّه لم يكن قد أمره بذلك .
    والذي يؤكّد كذب ما روي من صلاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خلفه أنّ الله تعالى قد نهى المؤمنين عن المتقدّم على رسول الله حيث قال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) (6) ، وقد استدل بهذه الآية وأدلّة أخرى مالك بن أنس وأتباعه وجماعة آخرون فذهبوا إلى أنّه لا يصح التقدّم بين يديه لا في الصّلاة ولا في غيرها ، ولا لعذر ولا لغيره (7) .
    هذا موجز الكلام على هذه القضية ، ولنا فيها رسالة مستقلة * .
    قوله (357) .
    ــــــــــــــ
    (1) لاحظ : فتح الباري 2 / 138 .
    (2) لاحظ : فتح الباري 8 / 124 .
    (3) الملل والنحل 1 / 29 وهو في الكتاب عن الآمدي 8 / 376 .
    (4) صحيح البخاري بشرح ابن حجر 3 / 137 ، صحيح مسلم بشرح النووي 3 / 54 .
    (5) فتح الباري 2 / 123 وغيره .
    (6) سورة الحجرات : 2 .
    (7) لاحظ : نيل الأوطار 3 / 195 ، السيرة الحلبية 3 / 365 ، فتح الباري 3 / 139 .
    * لاحظ الرّسالة في هذه المجموعة . 
    [ انظر : ( إلفات نظر ) في ص327 ]

    الصفحة 76
    ( الثالث من تلك الوجوه : شرط الإمام أن يكون أعلم الأمّة ، بل عالماً بجميع الأحكام كما مرّ ، ولم يكن أبو بكر كذلك ... قلنا : الأصل ممنوع ... ) .