Rss Feed

  1. في الكلام حول الصحابة
    قوله (373) :
    يجب تعظيم الصحابة كلّهم والكفّ عن القدح فيهم ؛ لأنّ الله عظّمهم وأثنى عليهم في غير موضع من كتابه ، والرسول قد أحبّهم وأثنى عليهم في أحاديث كثيرة ) .
    أقول :
    لابدّ ـ أوّلاً ـ من تعريف الصّحابي ، فقد اختلفت كلماتهم في تعريفه ، والذي يهمّنا الآن رأي الماتن والشارح ، لنبني البحوث اللاحقة :
    قال ابن الحاجب : ( الصّحابي من رأى النبيّ عليه الصلاة والسلام وإن لم يرو ولم تطل .. ) .
    فقال الماتن في شرحه : ( قد اختلف في الصحابي ، فقيل : من رأى الرسول عليه الصلاة والسلام وإن لم يرو عنه حديثاً ولم تطل صحبته له ، وقيل : إن طالت الصحبة ، وقيل : إن اجتمعا أي طول الصحبة والرواية . والحقّ : أنّ المسألة لفظية وإن ابتنى عليها ما تقدّم من عدالة الصحابة . لنا : أنّ الصحبة فعل يقبل التقييد بالقليل والكثير ... ) .
    فهو إذن موافق لابن الحاجب في أنّه ( من رأى النبيّ ) فقط .
    ووافقهما الشارح التفتازاني مع إضافة قوله : وإن كان أعمى ، وهذه عبارته : ( قوله : الصحابي من رآه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، أي : مسلم رأى النبيّ ، يعني

    الصفحة 145
    صحبه ولو أعمى ، وفي بعض الشروح : أي رآه النبيّ عليه الصلاة والسلام ) (1) .
    فالصحابي : ( من رأى النبيّ أو رآه النبيّ ) . هذا هو الموضوع الذّي اختاره هناك .
    والحكم الذي اختاره هنا هو : ( يجب تعظيم الصحابة كلّهم ، والكفّ عن القدح فيهم ) .
    فيكون الحاصل : يجب تعظيم كلّ من رأى النبيّ أو رآه النبيّ والكفّ عن القدح فيه ... وهل يرضى بهذا أحد ؟! وما الدليل عليه ؟!
    ثمّ ما معنى ( تعظيم الصّحابة كلّهم والكفّ عن القدح فيهم ) ؟
    أمّا ( الكفّ عن القدح فيهم ) فلا يختصّ بالصحابة ، لأنّه إن أريد من الكفّ عن القدح عدم الاتهام والرمي بالقوادح ، فالمسلم لا يجوز رميه والافتراء عليه مطلقاً ، وإن أريد منه عدم ذكر المساوي والقوادح الموجودة فيهم ، فكلّ مسلم يجب الكفّ عن إشاعة معايبه والسّتر على نقائصه ، إلاّ إذا اقتضت الضرورة ، كما في أبواب الإخبارات والشهادات ، ومن هنا كان وضع علم الرجال والجرح والتعديل لهم .
    وأمّا ( تعظيمهم ) فإن أريد منه حفظ حرمتهم ، فهذا لا يختصّ بهم بل يعمّ المسلمين جميعاً ، وإن أريد القول بعدالتهم كلّهم فهذا مختلف فيه ، والأولى أن نذكر عبارة الماتن في شرح المختصر :
    قال ابن الحاجب : ( مسألةٌ : الأكثر على عدالة الصحابة ، وقيل : كغيرهم . وقيل : إلى حين الفتن ؛ فلا يقبل الداخلون لأنّ الفاسق غير معيّن . وقالت المعتزلة عدول إلاّ من قاتل عليّاً . لنا : ( وَالَّذِينَ مَعَهُ ) ، أصحابي كالنجوم ، وما تحقّق بالتواتر عنهم من الجدّ في الامتثال ، وأمّا الفتن فتحمل على اجتهادهم ، ولا إشكال بعد
    ـــــــــــــــــــ
    (1) شرح مختصر الأصول 2/ 67 .

    الصفحة 146
    ذلك على قول المصوّبة وغيرهم ) .
    قال الماتن بشرحه : ( أقول : أكثر الناس على أنّ الصحابة كلّهم عدول ، وقيل : هم كغيرهم فيهم العدل وغير العدل فيحتاج إلى التعديل ، وقيل : هم كغيرهم إلى ظهور الفتن ، أعني بين عليّ ومعاوية ، وأمّا بعدها فلا يقبل الداخلون فيها مطلقاً ، أي : من الطرفين ؛ وذلك لأنّ الفاسق من الفريقين غير معيّن فكلاهما مجهول العدالة فلا يقبل . وأمّا الخارجون عنها فكغيرهم . وقالت المعتزلة : هم عدول إلاّ من علم أنّه قاتل عليّاً فإنّه مردود .
    لنا ما يدلّ على عدالتهم من الآيات نحو : قوله ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) أي : عدولاً ، وقوله : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) ، وقوله : ( َالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ) .
    ومن الحديث نحو قوله : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم . وقوله : خير القرون قرني ، ثمّ من بعدهم الأقرب فالأقرب . وقوله في حقّهم : لو أنفق أحدٌ مثل الأرض ذهباً لما نال مدّ أحدهم .
    ولنا أيضاً : ما تحقّق عنهم بالتواتر من الجَلَد في امتثالهم الأوامر والنواهي وبذلهم الأموال الأنفس ، وذلك ينافي عدم العدالة ، وأمّا ما ذكروه من الفتن فيحمل على الاجتهاد (1) ) .
    أقول :
    فالماتن يقول هناك بعدالة الصحابة كلّهم ، ويستدل لهذا القول بنفس الأدلّة التي يستدل بها أو نحوها في هذا الكتاب على ( وجوب تعظيم الصحابة كلّهم والكفّ عن القدح فيهم ) ، فلماذا غيّر العبارة من العدالة إلى هذا القول ؟
    لا يبعد عدوله عن ذلك الرأي ؛ ولأنّ غاية ما تدلّ عليه تلك الأدلّة ـ إن تمّت سنداً ودلالة ـ هو وجوب إكرامهم واحترامهم ، وعدم إشاعة قوادحهم ومطاعنهم ، فيكون حالهم كحال غيرهم من المسلمين ، ( فيهم العدل وغير
    ـــــــــــــــــــ
    (1) شرح المختصر في الأصول 2 / 67 .

    الصفحة 147
    العدل ، فيحتاج إلى التعديل ) .
    كما أنّه يجوز ـ بل قد يجب ـ ذكر ما صدر منهم ممّا يوجب الفسق إذا احتيج إلى ذلك ... فضلاً عن حمل ذلك على الاجتهاد أو غيره من المحامل ... وهذا هو القول الثاني من الأقوال المذكورة ، وهو الحقّ .
    فظهر أنّ غاية مدلول ما استدلّ به في الكتاب كتاباً وسنةً هو المدح ، فلو فرض تمامية تلك الأدلّة سنداً ودلالةً فإنّها تكون مخصّصةً بالأدلة الدالّة على جواز ـ وأحياناً وجوب ـ الذم والطعن والقدح والجرح ، لئلا يقتدي أحد بهكذا أُناس في عقائده وأفعاله ، ولا يرتّب الأثر على رواياتهم وأقوالهم وشهاداتهم .
    نعم ، حديث : ( أصحابي كالنجوم ؛ فبأيّهم اقتديتم اهتديتم ) الذي استدل به الماتن تبعاً لابن الحاجب يدلّ على عدالة الصحابة جميعاً وجواز الاقتداء بكلّ واحد منهم في أقواله وأفعاله ... لكنّه حديث ( باطلٌ ) ، ( منكرٌ ) ، ( موضوعٌ ) كما نصّ على ذلك كبار الأئمّة والحفّاظ ، أمثال : أحمد بن حنبل ، البزّار ، ابن عدي ، الدارقطني ، ابن حزم ، البيهقي ، ابن عبد البر ، ابن عساكر ، ابن الجوزي ، ابن دحية ، الذهبي ، الزين العراقي ، ابن حجر العسقلاني ، السخاوي ، السيوطي ، المتّقي ، القاري ، ... * .
    فالعجب من الماتن كيف استدلّ به هناك ، ولقد أحسن إذ لم يستدل به هنا ؟!
    وكيف يكون كلّهم عدولاً وفي القرآن المجيد آيات بنفاق بعضهم ، وفي السنّة الصحيحة تصريح بأنّ أكثرهم يُذادون عن الحوض يوم القيام ؟! ومن تأمّل في سيرتهم ووقف على أحوالهم في الكتب الموثوق بها ، وجد كثيراً منهم ( وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي ) قلوبهم .
    فكما أنّ فيهم أناساً ثبت ( جدّهم في الدين وبذلهم أموالهم وأنفسهم في
    ـــــــــــــــــــ
    * تجد كلمات هؤلاء وغيرهم في رسالتنا حول الحديث ، وهي مطبوعة في هذه المجموعة . [ انظر : ( إلفات نظر ) في ص327 ]

    الصفحة 148
    نصرةِ الله ورسوله ) كذلك فيهم أُناس ثبت ارتكابهم الكبائر الموبقة الموجبة للقصاص والحدود ... كما لا يخفى على من راجع السير المعتبرة والتواريخ المتقنة ، ( نحن لا نلوّث كتابنا بأمثال ذلك ، وهي مذكورة في المطوّلات ، وقد ذكرنا بعضها تبعاً للكتاب ) .
    فمن يليق بالتعظيم وبالإقتداء منهم القسم الأوّل ، وهم الذين بقوا بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على هديه وسنّته ، حافظين لشريعته ووصيّته ، وهي :
    ( إنّي يوشك أن أُدعى فأجيب ، وإنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعِترتي أهل بيتي . ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي ، وإنّهم لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ) .
    اللّهمّ اجعلنا من الثابتين على التوحيد وشريعة خاتم النبيّين ، ومن المتمسّكين بالكتاب والعترة الطاهرين ، والحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمّد وآله المعصومين