Rss Feed

  1. قال (235) :
    ( واجب على الخلق سمعاً عندنا وعند عامّة المعتزلة ، وعقلاً عند بعضهم ، وعلى الله عند الشيعة ... لنا وجوه ... ) .
    أقول : قد وقع الاتّفاق بيننا وبين القوم على وجوب نصب الإمام . خلافاً لمن نفاه مطلقاً أو في بعض الحالات ... لكنّهم يقولون بوجوب نصبه على الخلق ، وقد استدلّ في الكتاب بوجوه
    ـــــــــــــــــــ
    (1) مسند أحمد 4 / 96 .
    (2) سنن البيهقي 8 / 156 .
    (3) المواقف في علم الكلام 8 / 344 .

    الصفحة 155
    قال (236) :
    الأوّل وهو العمدة : إجماع الصّحابة ، حتى جعلوا ذلك أهمّ الواجبات ، واشتغلوا به عن دفن الرسول ... )
    أقول :
    نعم ، ترك أبو بكر وعمر ومن تابعها جنازة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على الأرض وأسرعوا إلى سقيفة بني ساعدة حيث اجتمع الأنصار ؛ للنّظر في أمر الخلافة وهي عندهم من فروع الدين !! ثمّ أقبلوا على بني هاشم وأتباعهم ، الذين بقوا حول الجنازة ،  يطالبونهم البيعة لأبي بكر !!
    يقول السّعد 236 : ( روي أنّه لمّا توفي النّبي خطب أبو بكر فقال : أيّها الناس ... ) .
    فالذين ( جعلوا ذلك أهمّ الواجبات ) ، ( حتّى قدّموه على دفن النبيّ ) هم طائفة من الصحابة لا كلّهم ، بل تلك الطائفة أيضاً لم يتحقّق بينها الإجماع ـ بعد الصّياح والنزاع ـ بل بقي رئيس الخزرج وأتباعه مقاطعين لأبي بكر وعمر إلى أن مات ، فأين الإجماع ؟
    هذا حال الإجماع المدّعى في المقام ( وهو العمدة ) فلا حاجة إلى الكلام حول الوجوه الأخرى .
    وأمّا خطبة أبي بكر التي أوردها 236 فلا ذكر لها في كتب الحديث والسير ، ولا ندري من الرّاوي لها ، وفي أيّ كتاب ؟ ومن الذين خاطبهم بقوله : ( فانظروا وهاتوا آراءكم رحمكم الله ، فتبادروا من كلّ جانب ) ؟
    وأين ؟ في السقيفة أو خارجها ؟ وكأنّ السعد أيضاً لا يدري شيئاً من ذلك ، ولذا يقول : ( روي ... ) ! .
    ثمّ إنّه يرد على القول بوجوب نصبه على الخلق إشكال مبنيّ على ما رووه عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال : ( الخلافة بعدي ثلاثون سنة ) وعلى ما ذهبوا من أنّ الأمّة لا تجتمع على ضلالة ، وذلك أنّه لو وجب نصب الإمام على الأمّة لزم إطباقها في أكثر الأعصار على ترك الواجب ، لأنّهم لم ينصبوا الإمام

    الصفحة 156
    المتّصف بما يجب من الصّفات بعد عليّ عليه السلام ، أي : منذ ثلاثين سنة بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى اليوم ، لكن الأمّة لا تجتمع على الضلالة ، فالنصب غير واجب عليها .
    وقد تعرّض السّعد لهذا الإشكال ، فأجاب 239 عن لزوم اجتماع الأمّة على الضّلالة بأنّه : ( إنّما يلزم الضلالة لو تركوه عن قدرة واختيار لا عجز واضطرار ) ، وأمّا عن الحديث فبأنّه : ( من باب الآحاد ) و ( يحتمل الصرف إلى الخلافة على وجه الكمال ) .
    قلت : لكن فيه :
    أوّلاً : أنّه يقتضي تقييد وجوب النصب على الخلق بحال القدرة والاختيار ، والحال أنّ كلماتهم مطلقة ، فراجع المواقف وغيره من كتبهم .
    وثانياً : أنّه لم يتّفق في تاريخ الإسلام اجتماع الأمّة على الإمام الحقّ فاضطروا إلى متابعة غيره ، بل إنّهم غدروا الحقّ وخذلوه كما كان في قوم موسى وغيره من الأنبياء ، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الحديث المتّفق عليه : ( لتتبعنّ سُنَنَ مَن كان قبلكم شبراً بشبر ... ) (1) .
    وثالثاً : إذا اجتمعت الأمّة على إمامة الإمام غير الحقّ فهل هذه ضلالة أو لا ؟ لازم كلامه وجوب إطاعة هذا الإمام وكونهم على حقّ ‍‍‍‍!! بل صريح كلامهم في غير موضع إمامة الفاقد للشرائط ، بل إمامة من صار إماماً بالقهر الغلبة . ففي الكتاب 257 : ( ومن صار إماماً بالقهر والغلبة ينعزل بأن يقهره آخر ويغلبه ) ، فهل يريدون من هذه الإمامة نفس ما هو موضوع البحث ، أعني : ( الخلافة عن النبيّ ) ؟! وهل يجعلون هكذا شخص مصداقاً لقوله تعالى : ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) ولقوله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : ( مَن مات ولم يعرف
    ـــــــــــــــــــ
    (1) هذا الحديث بهذا اللفظ ونحوه متّفق عليه بين المسلمين ، ومن رواته من أهل السنّة : أحمد ، والبخاري ، والترمذي ... أنظر : فيض القدير شرح الجامع الصغير 5 / 261 .

    الصفحة 157
    إمام زمانه ماتَ ميتةً جاهلية ) فيوجبون معرفته وطاعته ؟!
    إن قالوا : لا ، بل نريد من إمامته الملوكية والسلطنة ، بل هو صريح الكتاب 245 ، حيث قال :
    ( مبنى ما ذكر في باب الإمامة على الاختيار والاقتدار ، وأمّا عند العجز والاضطرار واستيلاء والظلمة والكفّار والفجّار وتسلط الجبابرة الأشرار فقد صارت الرياسة الدنيوية تغلّبية ، وبنيت عليها الأحكام الدينية المنوطة بالإمام ضرورة ، ولم يعبأ بعدم العلم والعدالة وسائر الشرائط ، والضرورات تبيح المحظورات ، وإلى الله المشتكى في النائبات ، وهو المرتجى لكشف الملمّات ) .
    قلنا : فذلك خارج عن البحث ، فلماذا يُدخل فيه ؟! ولماذا يستدل لوجوب معرفته وإطاعته بالآية والحديث كما في الكتاب 329 ؟
    وإن قالوا : نعم .
    قلنا : فما الفرق بين هذا الإمام الفاقد للعلم العدالة وغيرها من الصفات المعتبرة وبين الواجد لها ؟ وأيّ ثمرة لذكر صفات الإمام والقول باعتبارها ؟
    وأمّا الحديث فيردّ جوابه عنه بأنّه خبر واحد : استدلاله هو به تبعاً لشيخه العضد على إمامة أبي بكر ومن بعده 266 ويردّ احتمال صرفه : أنّه تأويل بلا دليل ، ولذا عبّر بالاحتمال .
    وأمّا أصحابنا فلا يتخطّون عن التّعريف ... فالإمامة : نيابة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وخلافة عنه في كلّ ما لأجله بعث ، فهي من توابع النبوّة وفروعها ، وكلّ دليل قام على وجوب بعث النبيّ وإرساله ، فهو دالّ على وجوب نصب الإمام النائب عنه والقائم مقامه في وظائفه ... واستدلّوا على ذلك بأدلةٍ كثيرة من الكتاب والسنّة والعقل ... لم تذكر في الكتاب ...
    أمّا في الكتاب ، فآيات منها : قوله تعالى : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ... ) (1) .
    ـــــــــــــــــــ
    (1) سورة القصص : 68 .

    الصفحة 158
    وأمّا من السنّة ، فأخبار ، منها : ما ثبت عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه لمّا عرض نفسه على بعض القبائل ، ودعاهم إلى الله والإسلام ، قال له رجل منهم : ( أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثمّ أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟
    قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء (1) .
    وأمّا من العقل ، فوجوه :
    منها : الوجوه الدالّة على اعتبار العصمة والأفضلية في الإمام ؛ لأنّ العصمة حالة خفية لا يطّلع عليها إلاّ الله سبحانه ، وكذا الأفضلية ، فيجب أن يكون النصب من قبله .
    ومنها : قاعدة اللطف ، ولم يذكر في الكتاب إلاّ هذا الوجه ، وكذلك فعل القاضي العضد في المواقف ؛ ليوهم أنّ لا دليل لأصحابنا غيره ! ثمّ منع ـ تبعاً له ـ وجوب اللّطف على الله ... (241) .
    أقول : اللطف عندنا : ما يقرّب العبد إلى الطاعة ويبّعده عن المعصية ، ولا حظّ له في التمكين ولا يبلغ الإلجاء ؛ لتوقّف غرض المكلّف عليه ، وإنّ المريد لفعل من غيره ، إذا علم أنّه لا يفعله إلاّ بفعل يفعله المريد من غير مشقّة ، لو لم يفعله لكان ناقصاً لغرضه ، وهو قبيح عقلاً(2) .
    ولا ريب في أنّ ( الإمام ) كذلك ، مثل ( النبيّ ) .
    فنصب الإمام واجب على الله كبعث النبيّ ، لتكون لله ( الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ) (3) و ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ ) (4) و ( ِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ 
    ـــــــــــــــــــ
    (1) السّيرة النبوية لابن هشام 2 / 66 ، السيّرة الحلبية 2 / 154 .
    (2) الباب الحادي عشر ، للعلاّمة الحلّي : 35 .
    (3) سورة الأنعام : 149 .
    (4) سورة النساء : 164 .

    الصفحة 159
    حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) (1) .
    وحينئذٍ لا يقال : بأنّ لا وجوب على الله ، ولا حكم للعقل في مثل ذلك ؛ لأنّ معنى هذا الوجوب العقلي درك العقل حسن إرسال الرسول ونصب الإمام ، إذ بذلك يعرف الله ويعبد ، وهذا هو الغرض من الخلقة حيث قال تعالى : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (2) .
    فسقط منع وجوب اللّطف ، وتفصيل الكلام في كتب علمائنا الأعلام ، كالذخيرة والشافي وتلخيصه وتجريد الاعتقاد وشرحه وغيره من كتب العلاّمة الحلّي وشروحها وغير ذلك .
    ثمّ إنّ القاضي العضد لم يشكل في الاستدلال بهذا الوجه ـ بعد منع وجوب اللّطف ـ إلاّ بأنّ اللّطف الذي ذكرتموه إنّما يحصل بإمام ظاهر قاهرٍ (3) وتبعه السّعد فأورده وتكلّم عليه ، وليته اقتدى بشيخه فلم يذكر غيره من الإيرادات الباردة السخيفة ، كقوله 241 :
    إنّ أداء الواجب وترك القبيح مع عدم الإمام أكثر ثواباً لكونهما أشقّ وأقرب إلى الإخلاص ، لاحتمال انتفاء كونهما من خوف الإمام . وأيضاً : فإنّما يجب لو لم يقم لطف آخر مقامه كالعصمة مثلاً ، فلم لا يجوز أن يكون زمان يكون الناس فيه معصومين مستغنين عن الإمام ؟ ) .
    فإنّ الأوّل منهما مستلزم لرفع اليد عن أصل الوجوب ، لكنّ أصحابنا ذكروا في اللّطف أنّ لا يبلغ حدّ الإلجاء ... والثاني منهما محال ، وعلى فرضه فخروج عن البحث ؛ لأنّ الكلام في نصب الإمام ليقتدي به الأنام ، وإذا كان جميع الناس معصومين كانوا جميعاً أئمّة فمن المأموم ؟!
    ـــــــــــــــــــ
    (1) سورة الأنفال : 42 .
    (2) سورة الذاريات : 56 .
    (3) المواقف في علم الكلام 8 / 348 .

    الصفحة 160
    وأمّا الإشكال بالنقض بالإمام الغائب عن الأبصار فقال 241 :
    ( وأيضاً : إنّما يكون منفعة ولطفاً واجباً إذا كان ظاهراً قاهراً زاجراً عن القبائح ، قادراً على تنفيذ الأحكام وإعلاء لواء الإسلام وهذا ليس بلازم عندكم ، فالإمام الذي ادّعيتم وجوبه ليس بلطف ، والذي هو لطف ليس بواجب . وأجاب الشيعة : بأنّ وجود الإمام لطف سواء تصرّف أو لم يتصرّف ... ورُدّ : بأنّا لا نسلّم أنّ وجوده بدون التصرّف لطف ... وثانياً : لأنّه ينبغي أن يظهر لأوليائه ... ) .
    أقول :
    ولا يخفي سقوط الوجهين :
    أمّا الأوّل : فإنّ منشأه توهّم أنّ الإمامة هي السلطنة الظاهريّة فحسب ، لكنّه عرّفها بأنّها رياسة في الدين والدّنيا ... وكذلك عرّفها غيره ، وقد عرفت أن لا خلاف هنا ... فهي منصب إلهي كالنبوّة ، فكما أنّ النبوّة باقية ، كذلك مع السلطة الدنيوية والحكومة الظاهرية ، وقد تفترق عنها والنبوّة باقية كذلك الإمامة ، و ( البعث ) و ( النصب ) من الله في جميع الأحوال على حاله ، و ( النبيّ ) و ( الإمام ) باقيان على النبوّة والإمامة . وعلى الناس الانقياد لهما والتسليم لأوامرهما ونواهيهما ، ولا إلجاء من الله كما عرفت . فإن فعلوا اجتمع الرياستان وتمّ اللطف ، وإلاّ افترقتا ولم تبطل النبوّة والإمامة ، بل خسرت الأمّة فوائد بسط اليد ونفوذ الكلمة منهما . على أنّ وجود النبيّ أو الإمام الفاقد للسلطنة الظاهرية ينطوي على بركاتٍ وآثار يفهمها أهلها ، حتى ولو كان غائباً عن الأبصار .
    وأمّا الثاني : فإن ظهوره لأوليائه واقع ، وتلك كتبهم المؤلّفة في هذا الباب من السابقين والـلاّحقين ، فيها حكايات وقصص يروونها عن طريق الثقات المعتمدين ، فكم من مسألة علميّةٍ أجاب عنها ، ومشكلةٍ عامةٍ أو خاصةٍ حلّها ، وحاجةٍ مهمّةٍ قضاها ... لكنّه في أكثر الأحيان لا يُعرف ، ولا يعرّف نفسه إلاّ لخواص أوليائه من عباد الله الصالحين ، الذين لا تخلو منهم الأرض في كلّ عصر وزمان ..