Rss Feed

  1. قوله (362) : ( الثاني : قوله عليه السلام : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيَّ بعدي ... والجواب ... ) .
    أقول :
    قد ذكر للاستدلال بهذا الحديث وجهين ، فأجاب عنهما على تقدير صحّته سنداً ، فالكلام يقع في جهتين :
    الجهة الأولى في سند الحديث :
     قوله : ( الجواب : منع صحّة الحديث ) ، قال الشارح : ( كما منعه الآمدي ، وعند المحدّثين : أنّه صحيح وإن كان من قبيل الآحاد ) .
    وفيه : كيف يمنع صحّة الحديث وهو في كتابي البخاري ومسلم (1) ، وهما
    ـــــــــــــ
    (1) صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، غزوة تبوك . صحيح مسلم ، الترمذي ، ابن ماجة ، أبي داود . لاحظ : جامع الأصول 9 / 469 .

    الصفحة 104

    أصحّ الكتب عندهم بعد القرآن ؟! وكيف يقال بأنّه ( من قبيل الآحاد ) وقد اشتهر بينهم قطعيّة صدور أحاديث الكتابين ؟ (1) كيف وقد نصّ على ثبوت هذا الحديث وكثرة طرقه ، بل وتواتره ،غير واحدٍ من أكابر القوم ؟!
    قال ابن عبد البّر : ( هو من أثبت الأخبار وأصحّها ، رواه عن النبيّ : سعد بن أبي وقاص ـ وطرق حديث سعد فيه كثيرة جداً ، قد ذكره ابن أبي خيثمة وغيره ـ ورواه ابن عبّاس وأبو سعيد الخدري وأم سلمة وأسماء بنت عميس وجابر بن عبد الله ، وجماعة يطول ذكرهم ) (2) .
    وقد كان على الماتن والشارح أن يُجّلا أنفسهما عن متابعة مثل الآمدي ؛ الّذي كان عند الذهبي وغيره من المبتدعة ، وقد نُفي من دمشق لسوء اعتقاده ، وصحّ عنه أنّه كان يترك الصلاة (3) .
     
    الجهة الثانية في دلالة الحديث :
    قوله (363) : ( أو نقول على تقدير صحّته لا عموم له في المنازل ، بل المراد استخلافه على قومه في قوله : اخلفني في قومي . لاستخلافه على المدينة ... كيف والظاهر متروك ، أي : وإن فرض أنّ الحديث يعمّ المنازل كلّها ، كان عامّاً مخصوصاً ؛ لأنّ من منازل هارون كونه أخاً نسبيّاً ونبيّاً ، والعام المخصوص ليس حجّة في الباقي أو حجّيته ضعيفة ) .
    أقول : إنّ طريقة أصحابنا [ في إثبات ] إمامة أمير المؤمنين عليه السلام من هذا الحديث إثبات عموم أفراد المنزلة لهارون ، ثمّ إثبات أنّ الإمامة من منازله ، عن طريق استخلافه على بني إسرائيل وعدم العزل عن الخلافة تارةً ، وعن طريق شركته
    ــــــــــــــ
    (1) لاحظ : كلام الحافظ ابن القيسراني المقدسي في كتاب الجمع بين رجال الصحيحين ، وكلام النووي وشارحه السيوطي في تدريب الراوي ، وغيرهما .
    (2) الاستيعاب ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام 3 / 1090 .
    (3) ميزان الاعتدال للذهبي ، لسان الميزان لابن حجر العسقلاني 3 / 134 .

    الصفحة 105

    لموسى عليه السلام في افتراض الطاعة تارةً أخرى .
    فإنكار دلالة الحديث على عموم المنزلة عمدة الشبه المتعلّقة بهذا الاستدلال ، فإذا ما اندفعت لم يبقَ لهم شيء يصفى إليه ، ولعلّ القوم على علم باندفاعها فيلجأون إلى تقليد الآمدي في الطّعن في سند الحديث ، مع بنائهم على عدم الطعن في شيءٍ أُخرج في الصحيحين !!
    أمّا العموم فالدالّ عليه قوله : ( بمنزلة هارون ) ، فإنّه اسم جنس مضاف ، وهو من ألفاظ العموم كما نصّ عليه الماتن نفسه في ( شرح مختصر الأصول ) ، وكذا غيره من أئمّة علم الأصول والعربية ، كما لا يخفى على من راجع مباحث العموم والخصوص في شروح ( منهاج الأصول ) للبيضاوي ، وشروح ( تلخيص مفتاح العلوم ) للسكّاكي ، وشروح ( الكافية في النحو ) لابن الحاجب .
    ويشهد بدلالة الحديث على عموم المنزلة استثناء النبوّة ، فإنّ صحّة الاستثناء معيار العموم كما نصّ علي البيضاوي في ( منهاج الأصول ) وشرّاحه كغيرهم من المحقّقين .
    هذا ولا يخفى أنّه لم ينكر في الكتاب ظهور الحديث في العموم ، وإنّما جاء فيه : ( المراد من الحديث : أنّ علياً خليفة منه على المدينة في غزوة تبوك ، كما أنّ هارون كان خليفة لموسى في قومه حال غيبته ، ولا يلزم دوامه ... بل التبادر : استخلافه مدّة غيبته ) ، فهما يقولان بأنّ ( المراد ) كذا ، وغاية ذلك دعوى أنّ قول موسى : ( اخْلُفْنِي ) لدى خروجه إلى الطور قرينة على إرادة خصوص مدّة غيبته من العموم ، وكذلك كلام النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ؛ لأنّه قاله عند ما خرج إلى تبوك ... لكن يكفي في دفع هذا التوهّم ثبوت ورود حديث المنزلة في مواقع متعدّدة ـ كما لا يخفى على المطّلع بألفاظه وطرقه ـ فالحديث باقٍ على عمومه ، نذكر منها مورداً واحداً إتماماً للحجّة ونكتفي برواية أحمد بن حنبل :
    قال المتّقي : ( مسند زيد بن أبي أوفى : لمّا آخى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بين أصحابه فقال عليّ : لقد ذهب روحي وانقطع ظهري حين رأيتك فعلت

    الصفحة 106
    بأصحابك ما فعلت ، غيري . فإنّ كان هذا من سخطّ عليّ فلك العتبى والكرامة . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : والذي بعثني بالحقّ ، ما أخّرتك إلاّ لنفسي ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبيّ بعدي . وأنت أخي ووارثي . قال : وما أرث منك يا رسول الله ؟ قال : ما ورثت الأنبياء من قبلي . قال : وما ورثت الأنبياء من قبلك ؟ قال : كتاب ربّهم وسنّة نبيّهم . وأنت معي في قصري في الجنّة مع فاطمة ابنتي ، وأنت أخي ورفيقي . حم . في كتاب مناقب علي ) (1) .
    فهذا الحديث الذي رواه إمامهم أحمد بن حنبل وارد في مورد المؤاخاة ، وهو يدلّ على أفضلية أمير المؤمنين وأعلميّته وعصمته ، كما لا يخفى . وكلّ ذلك مستلزم للإمامة والخلافة بلا فصل ...
    فظهر : أنّ الحديث على عمومه المعترف به ، ولا موجب لرفع اليد عن ذلك ...
    وأمّا رفع اليد عن ظهوره في العموم من جهة أنّ من منازل هارون كونه نبيّاً وكونه أخاً نَسبياً ، وعليّ عليه السلام لم يكن نبيّاً ولم يكن أخاً نسبيّاً لرسول الله ، ففيه :
    أمّا أوّلاً : لقد ذكر التفتازاني في ( شرح المقاصد ) إشكال انتفاء الأخوة على الاستدلال وأجاب عنه بنفسه ، وهذه عبارته : ( ليس الاستثناء المذكور إخراجاً لبعض أفراد المنزلة ، بمنزلة قولك : إلاّ النبوّة . بل هو منقطع ، بمعنى لكن ، فلا يدلّ على العموم كما لا يخفى على أهل العربية ، كيف ، ومن منازله الأخوّة في النسب ولم تثبت لعليّ رضي الله عنه ؟! اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّها بمنزلة المستثنى لظهور انتفائها ) .
    وتبعه القوشجي في ( شرح التجريد ) .
    ____________
    (1) كنز العمّال ، كتاب الفضائل ، فضائل الخلفاء ، فضل عليّ عليه السلام .

    الصفحة 107
    والحاصل عدم قدح انتفاء الأخوة النسبية بين عليّ والرسول عليهما السلام في عموم الحديث ، لكون الأخوّة بمنزلة المستثنى لظهور انتفائها بينهما .
    وأمّا ثانياً : فإنّ الإشكال بانتفاء النبوّة عن عليّ عليه السلام في غير محلّه ؛ لأنّ صريح الحديث استثناؤها ، ولذا لم يستشكل أحد بذلك ، وقال الشارح : ( ولو ترك قوله ( ونبيّاً ) لكان أولى ) .
    وأمّا ثالثاً : فإنّ العام المخصوص حجّة في الباقي بإجماع الصحابة والسلف ، وإنكار ذلك مكابرة ، نصّ على ذلك علماء الأصول ، قال البزدوي في أصوله : ( إجماع السلف على الاحتجاج بالعموم ) قال شارحه البخاري في ( كشف الأسرار ) : ( أي : بالعام الذي خصّ منه ... الاحتجاج بالعمومات المخصوص منها مشهور بين الصحابة ومن بعدهم ، بحيث يعد إنكاره من المكابرة ، فكان إجماعاً ) .
    فظهر عموم الحديث ، فيثبت لعلي عليه السلام كلّ ما ثبت لهارون عليه السلام من المنازل من الخلافة والعصمة والأفضلية وفرض الطاعة وغيرها ... إلاّ النبوّة .
    هذا ، ولا يخفى أنّ الماتن يعترف بظهور الحديث في العموم ، إلاّ أنه يدّعي ترك هذا الظهور ، لكنّ الشارح يغيّر معنى كلام الماتن فيقول بشرح : ( كيف والظاهر متروك . أي : وإن فرض أنّ الحديث يعمّ ... ) وهذا تعسّف واضح .
    وأمّا الإشكال على دلالة الحديث على فرض الطاعة ـ كما في ثاني وجهي الاستدلال ـ وقوله (363) :
    ( ونفاذ أمر هارون بعد وفاة موسى لنبوّته لا للخلافة عن موسى ... ) .
    فعجيب جداً ! لأنّ هارون كان خليفةً لموسى بنصّ القرآن الكريم إذ قال له : ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ) أي : ( كن خليفتي في قومي ونافذ أمرك فيهم ) كما ذكر المفسّرون بأجمعهم كالرّازي والزمخشري والبيضاوي والنّيسابوري والنسفي وابن كثير والخازن ... وهذا لا ينافي كونه نبيّاً .

    الصفحة 108
    وإذا كان من جملة المنازل الثابتة لهارون بخلافته فرض طاعته على الأمّة ، فعليّ عليه السلام ، المنزّل منزلة هارون ، مفترض الطاعة على الأمّة كذلك ، فلو صرّح النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بهذا المعنى وقال : ( أنت منّي بمنزلة هارون من موسى في فرض الطاعة على أمّتي وإن لم تكن شريكي في النبوّة ) لكان كلاماً مستقيماً لا تنافي فيه أصلاً .
    ويؤكّد ذلك أمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في غير واحد من الأحاديث المعتبرة ـ بإطاعة عليّ ، وأن من أطاع علياً فقد أطاعه ومن أطاعه فقد أطاع الله ... نكتفي هنا بحديثٍ واحد منها أخرجه الحاكم بسنده عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : ( من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع علياً فقد أطاعني ، ومن عصى عليّاً فقد عصاني . هذا حديث صحيح الإسناد (1) .
    هذا ولولا دلالة حديث المنزلة على حصول تلك المنازل لعليّ عليه السلام لم يقل عمر بن الخطاب ـ فيما رواه جماعة منهم الحاكم وابن النجّار .. كما في ( كنز العمّال ) ـ ( كفّوا عن ذكر عليّ بن أبي طالب ، فإنّي سمعت رسول الله يقول في عليّ ثلاث خصالٍ لئن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس : كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة الجراح ونفر من أصحاب رسول الله ، والنبيّ متكئ على عليّ ابن أبي طالب ، حتى ضرب بيده على منكبه ثمّ قال : وأنت يا علي أوّل المؤمنين إيماناً ، وأوّلهم إسلاماً ، ثمّ قال : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى . وكذب عليّ من زعم أنّه يحبّني ويبغضك ) .
    ولم يقل مثله سعد بن أبي وقاص كما رواه ابن ماجة في ( سننه ) وغيره .
    ولم يحتجّ به كبار الصحابة في مواطن مختلفة ، وأمير المؤمنين عليه السلام نفسه في احتجاجه على أهل الشورى .
    ____________
    (1) المستدرك على الصحيحين 3 / 121 .